- إنضم
- 12 يونيو 2025
- المشاركات
- 297
- الموضوع الكاتب
- #1
مرافئ السكون: حين تحدّث القلب مع الغياب
في آخر الزوايا المجهولة من قلب المدينة، كان هناك مقهى صغير يُدعى "مرافئ السكون". لا تعلّق عليه لافتة، ولا يعرفه سوى من اعتاد الحنين.
هناك، يجلس إياد كل مساء، رجل في الأربعين من عمره، يحمل في ملامحه سكونًا لا يشبه الصمت، بل يشبه من تعلّم كيف يحاور الوجع دون أن يصرخ. كان يشرب قهوته السوداء دون سكر، وكأنه يعاقب نفسه على ما مضى، أو على ما لم يحدث قط.
لم يكن إياد يحب الحديث مع أحد. وحده دفتره الجلدي القديم كان رفيق الجلسة. يكتب فيه رسائل لا تُرسل، ويقرأ فيه ذكريات لم تكتمل. مرّت ثلاث سنوات على غيابها، ليان، المرأة التي لم تشأ الحياة أن تكتمل معها. لم تمت، لكنها اختارت الرحيل... ذلك النوع من الرحيل الذي لا يملك أحدٌ فيه تفسيرًا، ولا يُغلق بابه حتى بعد مئات الرسائل والدموع.
ذات مساء، جاءه النادل الصامت بابتسامة مترددة، وقال:
"سيدي، هناك رسالة باسمك تُركت هنا منذ يومين، وكنت غائبًا."
أخذ الظرف، تفحّص الخط... هو خطها.
"إياد...
لم أكتب إليك لأعيد شيئًا، بل لأخبرك أن الغياب لا يعني النسيان.
كل يومٍ كنتَ فيه تنتظر، كنتُ أنا أحارب نفسي كي لا أعود.
كنتُ خائفة أن الحب وحده لا يكفي.
لكني تعبت من التفكير، وبقيت فقط أفتقدك...
ليان."
لم أكتب إليك لأعيد شيئًا، بل لأخبرك أن الغياب لا يعني النسيان.
كل يومٍ كنتَ فيه تنتظر، كنتُ أنا أحارب نفسي كي لا أعود.
كنتُ خائفة أن الحب وحده لا يكفي.
لكني تعبت من التفكير، وبقيت فقط أفتقدك...
ليان."
كان يريد أن يبتسم، لكنه شعر بأن الدموع قد سرقت ابتسامته قبله.
حمل قهوته، وخرج من المقهى لأول مرة دون أن ينظر خلفه.
وفي تلك الليلة، كتب في دفتره:
"إنها لا تزال تعرف الطريق إليّ، حتى وإن تعمّدت الضياع."
مرت أسابيع، ثم عاد إياد إلى عادته القديمة، لكنه لم يعد وحيدًا كما كان.
كانت الرسائل تصل، بلا عنوان، لكنها مكتوبة بروح تعرفه جيدًا.
كأن ليان لم تغب، بل أصبحت ظلًا دائمًا في تفاصيله،
ومرافئ السكون لم تعد مكانًا للهرب، بل أصبحت مسرحًا للانتظار الجميل.
الحب لا يموت،
لكنه أحيانًا...
يختبئ.
#قصة_عاطفية #رواية_عربية #الغياب_والحب #مرافئ_السكون #قصص_أدبية
الجزء الثاني: رسائل لا تصل، وقلوب لا تهدأ
لم يكن إياد بحاجة ليعرف أن الرسائل التي تصله كانت بخط ليان.
كان يعرفها من الكلمات قبل الحروف، ومن الفواصل قبل الجُمل.
كأنها كانت تكتب بدمع القلب، لا بحبر القلم.
أصبحت تلك الرسائل طقسًا مسائيًّا لا يتخلّف عنه.
يأتي إلى "مرافئ السكون"، يطلب قهوته، ينتظر…
وفي كل مرة، يجد ورقة مطوية أسفل مقعده، أو خلف صورة معلقة على الجدار.
"إياد،
أحيانًا، أصحو على حلمٍ صغيرٍ بك.
لا أراك، لكني أشعر بك تلمس وجهي وتقول: (أنا هنا).
هل كان يجب أن نكون معًا؟
أم أن الحب، في بعض الحالات، لا يُكتب له الوجود، بل الخلود في الذاكرة؟"
قرأ الرسالة، ثم رفع عينيه إلى السماء الرمادية، وقال في نفسه:
"ليان... إن لم تجمعنا الحياة، فلن أسمح لها أن تفرّق أرواحنا."
وفي ليلةٍ شتويةٍ أكثر برودة من المعتاد، دخلت امرأة إلى المقهى.
شعر إياد بشيءٍ يتحرك في داخله، ليس لأنها تشبه ليان،
بل لأنها جلست على الطاولة نفسها، وطلبت القهوة نفسها، وابتسمت لنفس النادل.
هل كانت صدفة؟
أم إشارة من الحياة أن الوقت قد حان لشيءٍ جديد؟
لم يتكلّم، ولم تحاول هي أن تقترب.
لكنه عاد إلى دفتَره، وكتب:
"أحيانًا، يزورنا شبح الحب في جسد شخص آخر.
فنخاف أن نخونه بالصدق، أو نخون أنفسنا بالفرار."
في اليوم التالي، لم تأتِ رسالة.
ولا في اليوم الذي بعده.
ظل المقعد خاليًا، والهواء مليئًا بانتظارٍ يشبه الصمت الذي يسبق البكاء.
كتب رسالة هذه المرة، لأول مرة منذ غيابها، وتركها هو تحت الطاولة:
"ليان،
إذا كنتِ تسمعين النداء،
فامنحيني حتى لو وهماً…
إن بقي من حضورك ظلّ،
دعيني أسكنه حتى آخر الرسائل."
#قصص_عاطفية #الحنين #رسائل_الحب #مرافئ_السكون #قصص_عربية_فصحى
الجزء الثالث: حين يعود الغائب بوجهٍ لا نعرفه
مرت ثلاثة أيامٍ دون أن تصله رسالة.
ثلاثة أيامٍ كانت كأنها فصول طويلة من خريف النفس،
ذلك الخريف الذي لا يسقط فيه ورق الشجر، بل أوراق الأمل.
في اليوم الرابع، عاد إياد إلى المقهى مبكرًا على غير عادته.
جلس صامتًا، لا يقرأ، لا يكتب، لا يتصفح الهاتف.
فقط ينظر إلى الباب، وكأنه يتحدى الغياب، أو يفاوض الانتظار.
وفجأة...
دخلت هي.
نعم، هي.
ليان.
لكنها لم تكن كما في ذاكرته.
ملامحها أصبحت أكثر هدوءًا،
وشعرها الذي كان يعانق كتفيها، أصبح مربوطًا بربطة خفيفة،
ونظرتها لم تكن دافئة... كانت مشوبة بالخوف، وربما الذنب.
تقدمت نحوه بخطى مترددة، وقالت بصوت خافت:
"هل كنت تنتظرني كل هذا الوقت؟"
لم يجب.
حدّق فيها طويلًا، ثم سأل:
"هل كنتِ تكتبين كل تلك الرسائل؟"
أجابت بعد صمتٍ ثقيل:
"بعضها... والبعض الآخر كان من قلبي، لكنه لم يُكتب بيدي.
كان صديقي القديم يسلمك ما أمليه عليه عبر الهاتف... كنت خائفة أن ترفض سماعي."
سألها، بعينين غارقتين في ألف سؤال:
"ولماذا الآن؟ لماذا بعد كل هذا الغياب؟"
قالت بصوت مرتجف:
"لأني عدت من معركةٍ مع الحياة... وعدت حيّة.
لكن الأحياء لا يُسمح لهم بالبقاء في الظل إلى الأبد."
أراد أن ينهض ويحتضنها،
لكنه ظلّ جالسًا.
لأن الحب الذي انتظر طويلًا،
صار يخاف أن يصطدم بالواقع.
"ليان...
أنا لم أنسكِ،
لكنني تعلّمت أن أعيش مع الغياب كما يُعاش مع الموت...
بوقار."
نظرت إليه بعينين دامعتين، وهمست:
"أنا لم أعد كما كنت…
لكن قلبي لا يزال يعرف الطريق إليك."
ثم انسحبت،
وتركت خلفها عبقاً لا يُشترى،
وألماً لا يُكتب.
في تلك الليلة، كتب إياد في دفتره:
"أحيانًا، يعود الغائب، لكن لا يعود الزمن.
وهنا يكمن وجع لا يملكه إلا من انتظر بقلبه فقط."
#قصة_رومانسية #الغياب_والعودة #ليان_وإياد #مرافئ_السكون #قصة_عربية_عميقة
الجزء الرابع (النهاية): ما لا يقوله اللقاء… تقوله العيون
في اليوم التالي، لم يأتِ إياد إلى "مرافئ السكون".
ولأول مرة منذ ثلاث سنوات، جلس في مكان آخر... في حديقة صغيرة تطل على النهر، حيث كانت ليان تحب أن تمشي.
كان يحتاج أن يسمع صوته الداخلي، بعيدًا عن أصوات الذاكرة، بعيدًا حتى عن صدى قدميها في المقهى.
في يده دفتره، وفي قلبه ارتباك.
كتب:
"الحب ليس دائمًا وعدًا بالبقاء…
بل أحيانًا، هو القدرة على أن نترك من نحب، إن كان الرحيل هو طريقه إلى السلام."
في تلك اللحظة، ظهرت ليان، بخطوات هادئة هذه المرة، دون تردد.
لم تحاول أن تبرر، ولم يحاول أن يسأل.
قالت له بهدوء:
"أردت أن أراك هنا… حيث كنا نحلم، لا حيث كنا ننتظر."
ابتسم إياد أخيرًا… ابتسامة صدق لم يعرفها منذ رحيلها.
قال:
"ربما لم يكتب لنا أن نكون معًا طوال الطريق،
لكننا كنا في قلب الحكاية… وهذا يكفي."
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم جلست إلى جانبه دون كلام.
ظلّا صامتَين، لكن العيون قالت ما لم تقله آلاف الرسائل.
ولما حلّ الغروب، وقفت ليان، ولم تقل وداعًا.
ولم يمنعها هو.
لأنه أدرك في تلك اللحظة…
أن الحب الحقيقي لا يملكه من يُمسك بيده،
بل من يتركه يرحل، دون أن يغلق الباب خلفه.
"سأنتظرك، لا لتعودي…
بل لأن قلبي اعتاد أن يزهر حين تقتربين."
وفي الصفحة الأخيرة من دفتره، كتب:
“ليان…
شكراً لأنك كنتِ القصة،
حتى ولو لم تكوني الخاتمة.”
ثم أغلق الدفتر، وتركه على المقعد،
وغادر بخطى هادئة نحو مرافئ أخرى…
ربما لا تُشبه السكون،
لكنها تستحق أن يُجرب فيها البدء من جديد.
#النهاية #قصة_حب_راقية #مرافئ_السكون #خاتمة_عاطفية #قصص_عربية_فصحى